سلسلة هل تعلم هل تعلم؟ - سلسلة حلقات تعلّم معنى ءاية - إعداد وتقديم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأخرس

هل تعلم من الذين استحبوا العمى على الهدى؟


هل تعلم من الذين استحبوا العمى على الهدى؟
إعداد وتقديم الشيخ الدكتور محمد الأخرس

﴿كُلَّمآ أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ﴾ أَيْ فَرِيقٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ ﴿سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ﴾ وَهُمْ مَالِكٌ وَأَعْوَانُهُ، ملائكةٌ أقوياءُ أشداءُ وهم تسعةَ عشرَ، وَسُؤَالُهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَهُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا إِلَى عَذَابِهِمْ: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ أَيْ رَسُولٌ فِي الدُّنْيَا يُنْذِرُكُمْ هَذَا الْعَذَابَ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ.
﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ﴾ أَنْذَرَنَا وَخَوَّفَنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [سُورَةَ الزُّمَرِ/71]،
ثَمُودُ قَبيلةٌ مِنْ قبائِلِ العَربِ قبلَ سيِّدِنا محمّدٍ، وهُمْ قومُ نبيِّ اللهِ صَالِحٍ، بعدَ المدينةِ بثلاثمائةِ كِيْلُو مِتْرٍ إلى جِهةِ الشَّامِ، فثَمُودُ بيَّنَ اللهُ لهُم طريقَ الخيرِ أرسَلَ إليهم صَالحًا عليهِ السلامُ فبيَّنَ لهُم طريقَ الهدايةِ، طريقَ الإسلامِ، فكذّبُوه، كَفَرُوا بنَبيِّهم صَالحٍ فأَهْلَكُهُمُ اللهُ، وأما قولُه تعالى: ﴿وأمَّا ثَمودُ فَهَدَيْناهُم﴾ مَعْنَاه دَلَلْنَاهُم على الحَقِّ ﴿فاستَحبُّوا العَمَى على الهُدَى﴾ ولكنَّهُم كذَّبُوا نَبيَّهُم فأَهْلَكَهُمُ اللهُ بطُغْيانِهم، ما قَبِلُوا الإيْمانَ، اختَارُوا الضَّلالَ، العَمَى الضّلالُ.
وممّا جاءَ في قصّتِهم أنهم طلبوا مِنْ نبِيّ اللِه صالحٍ أن يُظهرَ لهم معجزةً وهي أن يُخرجَ لهم ناقةً مع ولدِها مِنْ هذه الصّخرةِ، فأخرجَ لهم _ ولو كَانَ كاذبًا في قولِهِ إنَّ اللهَ أرسلَهُ لم يأتِ بهذا الأمرِ العجيبِ الخارقِ للعادةِ الذي لم يَستطعْ أحدٌ مِنَ النَّاسِ أن يعارضَهُ بمثلِ ما أتى بهِ، فَثَبَتَتِ الحُجَّةُ علَيْهِم، ولم يكن يَسَعُهُم إلا الإذعانُ والتَّصديقُ؛ لأنَّ العقلَ يُوجبُ تصدِيقَ من أتَى بمثلِ هذا الأمرِ الذي لا يُسْتَطاعُ معارضَتُهُ بالمثل مِن قِبَلِ المعارضين َ_ ثمّ حذّرَهُم أن يتعرَّضوا لهما فسكتوا مدّةً، ثم تآمرَ تسعةُ أشخاصٍ منهم على أن يقتلُوها فقتلوها وبعدَ ثلاثةِ أيّامٍ نزلَ بهم العذابُ فمَحاهم. قال تعالى: ﴿فأخذَتْهُم صَاعِقةُ العَذابِ الهُونِ بما كانُوا يكسِبُون * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [ سورة فصلت/17_18].
فَاعْتَرَفَ الْكُفَّارُ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا يُنْذِرُونَهُمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَاعْتَرَفُوا أَيْضًا بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: ﴿فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا﴾ أَيْ قَالُوا لِلرَّسُولِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ ﴿مَا نَزَّلَ اللَّهُ﴾عَلَيْكَ ﴿مِنْ شَىْءٍ﴾ مِمَّا تَقُولُ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ﴾ وَفِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ "الْبَحْرُ الْمُحِيطُ" مَا نَصُّهُ : "الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إلا فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ﴾ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا نُذُرًا إِلَيْهِمْ، أَنْكَرُوا أَوَّلًا أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ شَيْئًا وَاسْتَجْهَلُوا ثَانِيًا مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ وَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْخَزَنَةِ لِلْكُفَّارِ إِخْبَارًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَرَادُوا بِالضَّلالِ الْهَلاكَ الَّذِي هُمْ فِيهِ، أَوْ سَمَّوْا عِقَابَ الضَّلاَلِ ضَلالًا لَمَّا كَانَ نَاشِئًا عَنِ الضَّلالِ" اهـ.
رَوَى البخارِيُّ ومُسلمٌ أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ حينَ نَزَلَتْ عليهِ ءايةُ: ﴿وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقرَبِينَ﴾ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الصَّفَا، فَصَعِدَ عَلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ بَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ وَرَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ، يَا بَنِي فُلانٍ، لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"، قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهذا جَمَعْتَنا؟! ـ"تبًّا لك" معناهُ أنتَ خَاسِرٌ هالكٌ ـ سَبَّ الرسولَ ولَم يَسُبَّهُ أَحدٌ غيرُهُ مِنْ أقربائِهِ الذينَ جَمَعَهُم. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذهِ السورةَ:﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾.
كذلكَ يأجوجُ ومأجوجُ وردَ أنَّ الرسولَ مرَّ بهم ليلةَ المعراجِ فبلَّغهم فأَبَوا، ويتداولونَ هذا الخبرَ: جاءَنا رجلٌ اسْمُهُ محمدٌ، وأخبَرنا أنَّ اللهَ واحدٌ لا يجوزُ أنْ يُعبدَ غيرُهُ، يتناقلونَ هذا الخبرَ ولا يُسْلِمُونَ.
﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ﴾ هنا اعْتَرَفَ الْكُفَّارُ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا يُنْذِرُونَهُمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَاعْتَرَفُوا أَيْضًا بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُمْ، ولكنَّ الكفارَ يَكذبونَ يومَ القيامةِ كما وردَ في القرءانِ أنهم يقولونَ ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)﴾.
الكفارُ عندَما يرونَ أنَّ ما كانوا عليهِ مِنَ الشركِ يُهلِكُهم يقولونَ كما وردَ في القرءانِ: ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)﴾؛ لأنّهُ مِنْ شدةِ ما يصيرُ لهم مِنَ القلقِ والخوفِ مِنْ عذابِ اللهِ الذي يُعذِّبُ به الكافرينَ، يأتي وقتٌ على الكفارِ يومَ القيامةِ يُنكرونَ، يقولونَ: ما كنَّا مشركينَ، ما كنَّا نعبدُ غيرَ اللهِ، فيختمُ اللهُ أفواهَهم وتنطقُ أيدَيهم وأرجلَهم بما فعلوا. مِنْ عظمِ الفضيحةِ يسكتونَ بعدَ ذلك، ما بقيَ لهم طمعٌ في أن يدافعوا عن أنفسِهم. فاللهُ تعالى يختمُ أفواهَهم ويُنطقُ أيديَهم وأرجُلَهم، أيدِيهم تشهدُ بالشركِ الذي كانوا يعملونَهُ وأرجلُهُم تشهدُ بأنهم كانوا يعبدونَ كذا ويشركونَ باللهِ.