سلسلة هل تعلم حلقات الموسم الثالث - إعداد وتقديم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأخرس

هل تعلمُ أنَّ معاتبةَ النفسِ والبكاء مِن خشيةِ الله دليلٌ على حسنِ الإيمانِ؟


هل تعلمُ أنَّ معاتبةَ النفسِ والبكاء مِن خشيةِ الله دليلٌ على حسنِ الإيمانِ؟
الموسم الثالث - الحلقة السابعة
إعداد وتقديم الشيخ الدكتور محمد الأخرس

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ: "أمْسكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ". أخرجَهُ التِّرمِذيُّ وقالَ: هذا حديثٌ حسنٌ. في هذه الوصيةِ الجامعةِ المانعةِ بَيَّنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ النجاةَ مِنَ الهلاكِ والضياعِ في الدنيا والآخرةِ في ثلاثةِ أمورٍ هِيَ:
الأولُ قولُهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "أَمْسِكْ عليك لسانَكَ" فيهِ الحثُّ على حفظِ اللسانِ فإنَّ أكثرَ معاصِي الإنسانِ منهُ أي مِنَ اللسانِ، حتى قالَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ في ذلكَ ما رواهُ الطبرانيُّ: "أكثرُ خطايا ابنِ ءادمَ مِنْ لسانِهِ"، ولا سيما عندَ الغضبِ والخصومةِ مَعَ الناسِ فإنَّ الغضبَ قد يدعو صاحبَهُ إلى إنكارِ الحقائقِ وجحدِ الحقِّ. وقالَ أيضًا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : "إنَّكَ لا تزالُ سالِمًا ما سكتَّ، فإذا تكلمتَ كانَ لكَ أو عليكَ" رواهُ البيهقيُّ. الذكيُّ الفَطِنُ هو الذي يَحْذَرُ كلَّ الحذرِ مِنْ لسانِهِ؛ لأنَّهُ سوفَ يُحاسَبُ على كلِّ كلمةٍ بل على كلِّ لفظٍ يَنْطِقُ بِهِ لسانُهُ قالَ تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق/18].
وسأل معاذ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار فأخبره النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم برأسه وعموده وذروة سنامه- رأس الأمر الإسلامُ و عمودُهٌ الصّلاة و ذَرْوَةُ سَنَامِهِ أي أعلى ما في الإسلام و أرْفَعُهُ - ثم قال: "ألا أخبرك بِمِلاكِ ذلك كلِّه؟ " قال: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسان نفسه ثم قال: "كُفَّ عليكَ هذا". فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثَكِلَتْكَ أمُّكَ يا معاذ؛ وهل يَكُبُّ الناسَ على وجوهِهِم أو على مَناخِرِهِم إلا حصائدُ ألسنتِهم". قال الترمذيُّ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
والأمرُ الثاني المذكورُ في حديثِ عُقبةَ بنِ عامرٍ "وَلْيَسَعْكَ بيتُكَ" معناهُ أنْ يَقْنَعَ الإنسانُ بما رزقَهُ اللهُ ولا يَلتفِتَ إلى ما في يدِ غَيْرِهِ، فإنَّ الذي يقنَعُ بما رَزقَهُ اللهُ جديرٌ بأنْ يكونَ شاكرًا للهِ. فلذلكَ ينبغِي أنْ لا ينظرَ الإنسانُ إلى مَنْ هو فوقَهُ في الرزقِ والمالِ بل ينبغِي أن ينظرَ إلى مَنْ هو دونَهُ حتى يُبْعِدَ نفسَهُ مِنَ الطمعِ ومِنْ أن يَحْسُدَ الناسَ على ما أعطاهُمُ اللهُ، وذلكَ أقربُ إلى الزهدِ أيضًا، والزهدُ مآلُ الأنبياء والأولياءِ.
وقد كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يأتَدِمُ بالخلِّ وحدَهُ، أي كانَ لا يأكلُ إدامًا غيرَ الخلِّ إذا لم يُوجدْ في البيتِ إدامٌ غيرُهُ، يأكلُ الخبزَ بالخلِّ من غيرِ أن يكونَ هناكَ دَسَمٌ لا لَحْمٌ ولا غيرُهُ.
فقد وردَ في صحيحِ مسلمٍ أنّهُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قالَ لأهلِه: "هل عندَكم مِنْ إِدامٍ؟" - أي شىءٍ يُؤكَلُ بالخُبْزِ- فقيلَ لهُ: عندَنا خلٌّ فقالَ: "نِعْمَ الإدامُ الخلُّ نِعْمَ الإدامُ الخلُّ نِعْمَ الإدامُ الخلُّ"، ثلاثَ مراتٍ ما استقلَّ الخلَّ ولا احتقرَهُ بل رَضِيَ بِهِ إدامًا.
ولو كانَ الفضلُ بالتنعمِ لطَلَبَ مِنْ ربِّهِ أن يُعطيَهُ اللهُ ما يتنعمُ بِهِ ويَتوسَّعُ بِهِ مِنَ الملذّاتِ. فقد روى الترمذيُّ عن أبي أُمامةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "عَرَضَ عليَّ ربي ليجعلَ لي بَطْحَاءَ مكةَ ذهبًا، فقلتُ: لا يا ربِّ ولكن أشبعُ يومًا وأجوعُ يومًا فإذا جعتُ تضرعتُ إليكَ وإذا شبعتُ حمدتُكَ وذكرتُكَ".
فلو كانَ الفضلُ في التنعُّمِ في ملذّاتِ الدنيا والتوسّعِ في ذلكَ كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ أغنى أهلِ عصرِهِ، كان طلبَ مِنَ اللهِ بطحاءَ مكة َذهبًا فكانَ أغنى أهلِ عصرِهِ لكنَّهُ عَلِمَ أنَّ الفضلَ ليسَ بالتنعمِ.
وأما الأمرُ الثالثُ في الحديثِ فهو أنْ يُحاسبَ المسلمُ نفسَهُ ويُعاتِبَهَا على تقصيرِها ويَعرِفَ أن ذلكَ طريقٌ لنجاتِهِ مِنْ عذابِ النارِ وهذا ما يُفهمُ من قولِ النبي:"وابكِ على خطيئَتِكَ"، البكاءُ مِنْ خشيةِ اللهِ ، البكاءُ ندمًا على المعصيةِ، هذا البكاءُ الذي يُحِبُّهُ اللهُ.
وقد بَيّنَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنّ مَنْ بكى مِن خشيةِ اللهِ فإنَّ اللهَ يُظِلُّهُ تحتَ ظلِّ عرشِهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ فقالَ:" سبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ -أي في ظلِّ عرشِهِ- يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ". ثم قالَ: "ورجلٌ ذكرَ اللهَ خاليًا ففاضَتْ عيناهُ". وقد حرّمَ اللهُ النارَ على مَنْ بكى مِنْ خَشْيَتِهِ فقالَ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "حُرِّمَتِ النارُ على عينٍ دمعَتْ مِنْ خَشيةِ اللهِ" والحديثُ صحيحٌ رواهُ النسائيُّ في السُّنَنِ الكُبْرى.
فقولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "وابكِ على خطيئَتِكَ" معناهُ يجبُ على الإنسانِ أن يتوبَ من ذنوبِهِ، فينبَغِي للإنسانِ أن يُلْزِمَ نفسَهُ محاسبَتَها على الذنوبِ، ويَنظُرَ في نفسِهِ بعدَ كلِّ بُرْهَةٍ ماذا عَمِلَ مِنَ الذنوبِ حتى يُحْدِثَ لها توبةً قبلَ فواتِ الأوانِ.
اللهم ارزقنا عينين هطّالتين تبكيان الدّمع من خشيتك من قبل أن يصير الدمع دما و الأضراس جمراً
ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقنا عذابَ النارِ