سلسلة هل تعلم حلقات الموسم الثالث - إعداد وتقديم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأخرس

هل تعلم أنَّ العفوَ سِمَةُ الأتقياءِ وشارةُ الأوفياءِ؟


هل تعلم أنَّ العفوَ سِمَةُ الأتقياءِ وشارةُ الأوفياءِ؟
الموسم الثالث - الحلقة السادسة والعشرون
إعداد وتقديم الشيخ الدكتور محمد الأخرس

العَفْوُ خُلُقٌ كريمٌ خُلُقٌ نبيلٌ وخُلُقٌ أَصِيلٌ تأصَّلَ في نُفُوسِ المسلمينَ، أرشدَنا اللهُ سبحانَهُ وتعالى إلى العفوِ وأعْلَمَنا أنَّهُ مِنْ تقوى اللهِ تعالى وهو ممَّا يُحِبُّهُ اللهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. فالعَفْوُ سِمَةُ الأَتقياءِ وشارةُ الأَوفياءِ والعُبَّادِ الأَنْقياءِ قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: ﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ الآية [سورة البقرة/237].
وقد جاءَ الحثُّ على العَفْوِ في القرءانِ الكريمِ يقولُ اللهُ تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ الآية [سورة الشورى/40]. فما بالُكَ بأمرٍ يتكفَّلُ اللهُ تعالى بأجرِهِ ويَجْعَلُ ذلكَ الأجرَ مفتوحًا دونَ حدٍّ أو قيدٍ؟! فاعمَلِ الخيرَ اليومَ وتجاوَزْ واصْفَحْ عَنْ الغيرِ هنا تَجِدْ أثرَها ورَيحانَتَها وبَرْدَها وثَمَرَتَها هناكَ في جناتِ النعيمِ.
كما أمرَ اللهُ عزَّ مِنْ قائلٍ نبيَّهُ بالعَفْوِ والمغفرةِ قالَ اللهُ تباركَ وتعالى في خِطابِهِ للرسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [سورة الأعراف/199]. قالَ عبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ: "ما أَنزلَ اللهُ هذه الآيةَ إلا في أخلاقِ الناسِ" أخرجَهُ البخاريُّ.
العَفْوُ عِزٌّ في الدنيا والآخرةِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قَالَ:"مَا نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِنْ مالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلاَّ عِزًّا، وَمَا تَواضَعَ أَحَدٌ للهِ إلا رَفَعَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ" رواهُ مسلمٌ. ما أَعْظَمَ الإنسانَ وما أكملَ خُلُقَهُ وما أعلى منـزلتَهُ عندما يَعْفُو عَنْ قاتلِ قريبِهِ وحبيبِهِ، ويَحْتَسِبُ ذلكَ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ رجاءَ المغفرةِ العظمى والمـِنـَّةِ الكُبرى مِنَ اللهِ تعالى يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ.
يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة ءال عمران/134].
سبحانَ اللهِ العظيمِ، ربُّنا تباركَ وتعالى غنيٌّ عنَّا ونحنُ الفقراءُ إليهِ يَدْعُونا للعَفْوِ ويُبَيِّنُ لنا أنَّ العَفْوَ مِنْ تَقْواهُ، فهل يَجْدُرُ بِنَا أنْ نُخَالِفَ ما أمرنا بهِ الخالقُ سبحانَهُ؟!
إنَّ اللهَ جلَّ وعلا يُحِبُّ العافِينَ أفلا نَكُونُ مِنَ العافِينَ؟! مِنَ الذينَ يُحِبُّونَ العفوَ؟! مِنَ الذينَ يُحِبُّونَ ربَّهُم ويُنَفِّذُونَ أمرَهُ؟! أفلا نَرْغَبُ في جنةٍ عَرْضُها السمواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ للمتقِينَ؟
سُئِلَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها عَنْ خُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالت: "لَـم يكن فاحِشًا ولا مُتَفَحِّشًا ولا سَخَّابًا في الأَسواقِ، ولا يَجْزِي بالسيِّئةِ السيئةَ، ولكن يعفُو ويَصْفَحُ " أخرجَهُ أحمدُ والترمذيُّ وقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وأصلُهُ في الصحيحينِ.
الصفحُ والعفْوُ هما خُلُقُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأينَ المشمِّرونَ المقتَدونَ؟! أينَ مَنْ يُغالِبُهم حُبُّ الانتصارِ والانتقامِ مِنْ خُلُقِ سيِّدِ المرسَلينَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؟!
ما أعظمَ عفوَ وصفحَ الحبيبِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عندَما دعا قومَهُ إلى دينِ الحقِّ والصراطِ المستقيمِ، دعاهم شَفَقَةً ورَحْمَةً بهم ليُنْقِذَهُم مِنْ عذابٍ أَليمٍ فما كانَ منْهم إلا أنْ كَذَّبُوهُ واتَّهَمُوهُ بالسِّحْرِ والكذبِ والجنونِ وسَلَّطُوا عليهِ سفهاءَهم.
فخَرجَ مِنْ ثَقِيفٍ حزينًا كئيبًا؛ لأنَّ قومَهُ لم يُصدِّقوهُ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [ سورة القصص/56 ].
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُشْرَفَ لَهُ الْبُنْيَانُ وَتُرْفَعَ لَهُ الدَّرَجَاتُ فَلْيَعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِ مَنْ حَرَمَهُ وَيَصِلْ مَنْ قَطَعَهُ" أخرجَهُ الحاكمُ وقالَ صحيحٌ على شَرْطِ الشيخَينِ.
منـزلةُ العفوِ العظيمةُ عندَ اللهِ، طريقٌ إلى الجنةِ يَستطيعُهُ الفقيرُ والغنيُّ فلا يذهبَنَّ عنكَ هذا الفضلُ، ولا تَحْرِمَنَّ نفسَكَ هذا الأجرَ. بيتٌ في الجنةِ إذا عَفَوْتَ عَنْ خَصْمِكَ وغريمِكَ، فوزٌ بجنةٍ عَرضُها السمواتُ والأرضُ إذا صَفَحْتَ عنْ قاتلِ حبيبِكَ وقريبِكَ، أيُّ مسلمٍ يُضيِّعُ هذا الأجرَ مقابلَ شُؤْمِ الانتقامِ ورغبةِ التشَفِّي؟! وليسَ هذا خُلُقَ المسلمِ الكاملِ، بل الأعظمُ مِنَ الانتقامِ أنْ تتنازلَ وتعفوَ وتصفَحَ وتُحْسِنَ إلى مَنْ أَساءَ إليكَ؛ لأنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسنينَ. إنَّ خُلُقَ العَفْوِ والسماحةِ على سُمُوِّ منزلتِهِ، وعلوِّ مكانتِهِ عندَ اللهِ وعندَ الخَلْقِ، يُعَدُّ مِنَ الخِصالِ الغائبةِ بينَ كثيرٍ مِنَ الناسِ.
ولو تأمَّلَ المسلمُ ما يَفُوتُهُ مِنَ الأجرِ والخَيرِ بفواتِ هذا الخُلُقِ الجميلِ لَتَحَسَّرَ على نفسِهِ أَسفًا!. تعلَّمُوا العَفْوَ وجاهِدُوا أنفسَكُمْ بِه وعَلِّمُوا أولادَكم وأهلِيكُم عليهِ فإنَّ الجَزاءَ عندَ اللهِ عظيمٌ وإِنْ أَحْبَبْتَ أن يَعْفُوَ اللهُ عنكَ فاعفُ أنتَ عَنْ عبادِهِ.