سلسلة هل تعلم حلقات الموسم الثالث - إعداد وتقديم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأخرس

هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ الوَفَاءَ بِالوَعْدِ مِنَ الْصِّفَاْتِ الْمَحْمُودَةِ؟


هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ الوَفَاءَ بِالوَعْدِ مِنَ الْصِّفَاْتِ الْمَحْمُودَةِ؟
الموسم الثالث - الحلقة الرابعة والعشرون
إعداد وتقديم الشيخ الدكتور محمد الأخرس

إنَّ الوفاءَ بالوعدِ والالتزامَ به خُلُقٌ إسلاميٌ نبيلٌ، ومنَ الصفاتِ المحمودةِ التي يحثُّ عليها الدينُ ويأمرُ ربُّ العالمينَ، يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى ممتدحًا لنبيّ من أنبيائه لاتصافه بهذه الصفة ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [سورة مريم/54].
كانَ إسماعيلُ عليه السَّلامُ صادقَ الوعدِ، يقولُ مجاهدٌ :" لـم يعِدْ شيئا إلا وفَّى بهِ"، كما وصفَهُ اللهُ تعالى. ويقولُ مقاتِلٌ : وعدَ رجُلاً أنْ يقيمَ مَكانَهُ حتى يرجِعَ إليهِ الرَّجُلُ. وأعلى درجاتِ الوفاء وأسماها وأجَلَّها وأرقَاها وفاءُ الإنسانِ مع ربِّهِ الذي خلقَه، لأنَّ الوفاءَ مع الله التِزامٌ بأمرِهِ ونهيِهِ وخضوغٌ لشرعِه وحكمِهِ. الوفاءُ مع الله بأنْ يُعْبَدَ وحدَهُ ولا يُشرَكَ بهِ شىءٌ كما قال سبحانَه: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ الآية [سورة البقرة/40]. فمن وفَّى بعَهْدِ الله الذي أخذَهُ عليهِ من طاعَتِهِ وتوحيدِهِ ودينِهِ فإنَّ الله سبحانَهُ وتعالى قدْ وعدَهُ أنْ يُدخِلَهُ الجنَّة.
الوفاءُ بالوعدِ منَ الأخلاقِ الإسلاميةِ الرَّفيعةِ التي ينبغي أنْ يتحلَّى بها مريدُ رضا اللهِ والدَّار الآخرةِ ليسلمَ وينجُوَ من الآثامِ والذنوبِ المترتِّبةِ على عدمِ وفائِهِ بوعدِهِ، لاَّن تبعاتِ إخلافِ الوعدِ من أخطرِها النِّفاق والكذبُ، ففي الحديثِ الصحيحِ عن عبد اللهِ بنِ عامرٍ أنَّهُ قال : دعتني أُمي يومًا ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قاعدٌ في بيتنَا، فقالْت : ها أُعطيكَ، فقال لها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلم : "وما أردتِ أنْ تُعطيَه؟" قالتْ: أُعطيهِ تمرًا، فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم:" أمَا إنَّكِ لو لمْ تُعطهِ شيئًا كُتِبَتْ عليكِ كِذبَةٌ " رواهُ أبو داودَ. فإذا كانَ الذي لا يَفي بوعدِه في تمرٍ يُكتبُ عليهِ كِذبةٌ، فكيفَ بما هو أكثرُ من ذلكَ؟ الوفاءُ من صِفاتِ المتقِينَ، وشمائلِ المؤمنينَ التي أمرَهم بها ربُّ العالمين.
روى مسلمٌ أنَّه مرَّ أعرابيُّ على ابنِ عمرَ فقالَ له ابنُ عمرَ: ألستَ ابنَ فلانِ بنِ فلانٍ؟ قالَ: بلى، فأعطاهُ ابنُ عمرَ دابةً كان يركبُها وقال: اركبها، وأعطاهُ عِمامَتَهُ وقالَ : اشدُدْ بها رأسَكَ، فقال لهُ بعضُ أصحابِهِ: غفرَ اللهُ لكَ، أعطيتَ هذا الأعرابيَّ دابةً كنتَ تروحُ عليها وعِمامةً كنتَ تشُدُّ بها رأسَكَ، فقالَ: إني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: "إنَّ مِنْ أبرِّ البرِّ صلةَ الرجلِ أهلَ وُدِّ أبيهِ بعد أنْ يُوَلِّيَ" وإنَّ أباهُ كانَ صديقًا لعمَرَ. ومن الوفاءِ الوفاءُ بينَ الزوجينِ فقد جمعهما عقدٌ عظيمٌ ولهذا أيضًا عظَّمَ اللهُ سبحانَهُ شأنَ الزِّواجِ وسُمِّيَ في القرءانِ "مِيثاقًا غليظًا" قال سبحانَهُ وتعالى: ﴿وأخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ الآية [ سورة النساء/21].
وخديجةُ بنتُ خويلدٍ رضيَ اللهُ عنها واسَتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بمالِها، ورُزِقَ منها الولدَ، وأولُ منْ صدَّقَهُ وءامنَ بهِ من النساءِ، وكانت خيرَ زوجةٍ لزوجِها في حياتِها. قالَ ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ: "كانت حريصة على رضاهُ بكلِّ ممكنٍ، ولم يصدُر منها ما يُغضبُهُ قطُّ". فقابَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وفاءَها بوفاءٍ أعظمَ منه، فكانَ في إحسانِها يشكُرُها، وظلَّ بعدَ موتِها يُكثِرُ ذكرها ويقولُ عنها : "إني رُزِقتُ حبَّها" رواهُ مسلمٌ.
وكانَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وفيًّا مع صحابتِهِ، فأبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ أفضلُ الصحابةِ، نصرَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بمالِهِ ونفسهِ، وكانَ أكثرَ الصحابةِ صُحبةً، فقالَ النبيُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "لو كنتُ مُتخِذًا من أمتي خليلًا لاتخَذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكن أخي وصاحبي" متفقٌ عليهِ. فالوفاءُ من شيمِ الرجالِ وأمارةٌ على سموِّ النفسِ وحُسنِ الخُلقِ، وأوفى الناسِ رسلُ اللهِ. وللصِّحابِ وفاءٌ يتحقَّقُ بشكرِ أفعالِهِم وحفظِ سرِّهِم ووُدِّهِم والثناءِ الحسنِ عليهِم ومنعِ وصولِ الأذى إليهِم، فمن صنعَ إليكَ معروفًا كافِئْهُ عليهِ، فإنْ لم تجدْ ما تُكافِئهُ فادعُ لهُ فإنَّهُ منَ الوفاءِ يقولُ عزَّ وجلَّ منْ قائِلٍ: ﴿هلْ جَزَاءُ الإحسانٍ إلا الإحسانُئ﴾ [سورة الرَّحمن/60].
فلنَتَّقِ اللهَ ولنَجْعلِ الوفاءَ مبدأً منْ مَبادِئِنا وخُلُقًا منْ أبرَزِ أخلاقِنا، ففي الوفاءِ بالعُهودِ تآلفُ القلوبِ وتقويةُ الأواصل وإثباتُ محاسنِ الدينِ.
أسألُ اللهَ ليْ ولكمْ عِلمًا نافِعًا وعملاً صالِحًا ورزِقًا واسِعًا إنَّهُ سميعٌ مجيبٌ.