سلسلة هل تعلم حلقات الموسم الثالث - إعداد وتقديم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأخرس

هل تعلم أن المداراةَ من أخلاقِ المؤمنين؟


هل تعلم أن المداراةَ من أخلاقِ المؤمنين؟
الموسم الثالث - الحلقة الثانية والعشرون
إعداد وتقديم الشيخ الدكتور محمد الأخرس

إن رسولنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أمرنا بمخالطة الناس والصبر على أذاهم، وهذا يتطلب من الإنسان أن يكون واسع البال، سمح المعاشرة، يداري الناس ويوادهم، ويعرف كيف يتصرف معهم لأن الناس قد ركّبت فيهم أهواء مختلفة وطبائع متباينة. فمن لم يدار صديق السّوء كما يداري صديق الصّدق فليس بحازم. روى ابن ماجه بإسناد حسن أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقول:"الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ".
فالمداراة هي التلطف مع الإنسان حتى تستخرج منه الحق أو ترده عن الباطل، وأما المداهنة فهي التلطف معه لإقراره على ذنب، أو مجاملته في باطل، أو تركه يمشي على هواه دون نكير. ومن هنا يتبين أن المداراة صفة مدح يتحلى بها أهل الإيمان والمداهنة صفة ذم يتصف بها أهل النفاق، لأن المداهن يظهر خلاف ما يضمر ويتصنع أمورًا لا حقيقة لها في الواقع.
فمن المداراة أن يرى الإنسان شخصًا واقعًا في منكرين أحدهما أشد وأغلظ من الآخر، فينهاه عن المنكر الأشد ويحذره منه، ولا يكّلمه عن المنكر الآخر، مداراة له وتريثًا معه، حتى يكف عن المنكر الأعظم والشر الأكبر. وأما المداهنة كأن يسألك عن حكم شىء محرم فتقول له: لابأس به، أو تجيزه له مداهنة ومجاملة، أو تراه على منكر فتسكت عنه، ولو كان شخصًا ءاخر لأنكرت عليه وأغلظت له. فالمداراة غير المداهنة لأن المداهنة ترك ما يجب لله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك لغرض دنيوي أو لمصلحة شخصية وهوى نفساني.
وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بملاطفة الوالدين ومداراتهم إن كانا غير مؤمنين فقال: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة لقمان/15]. أي لا تطعهما في الكفر بالله والشرك به، وعليك بمصاحبتهم بالمعروف، والإحسان إليهم بالقول والفعل في غير معصية الله.
﴿وَإِن جَاهَدَاكَ﴾ أي والداك ﴿عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي﴾ غيري في عبادتك إياي ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أو أمراك بمعصية مِن معاصي الله ﴿فَلا تُطِعْهُمَا﴾ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ أي بالمعروف فيما لا إثم فيه ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ واسلك طريق مَن تاب من ذنبه ورجع إليَّ وآمن برسولي محمَّد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم﴾ فأخبركم ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا، وأجازي كلَّ عامل بعمله.
ومن الأدلة الواضحة التي تدل على شرعية المداراة قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السَّلام: ﴿اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [سورة طه/44]. إن فرعون طغى وتجبر وتكبر، ولكن مع ذلك كله ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا﴾ من باب المداراة وإيصال الحق إليه بالأسلوب الجميل والطريقة الأفضل من غير مداهنة كما قال القرطبي في تفسيره (۲/۱٦): "ينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا مع البَرِّ والفاجر، من غير مداهنة؛ لأن الله تعالى قال لموسى وهارون ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾. يعني لفرعون، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما ربهما باللين معه.
وقد قال الحافظ الفقيه المفسر ابن الجوزي ناصحا ولده في رسالته "لفتةُ الكَبدِ إِلى نصيحةِ الولَد":"فإذَا اضطُررْتَ إلى مُخالطةِ الناسِ فخالطْهُمْ بالحلمِ عنهمْ فإنَّكَ إنْ كشفْتَ عنْ أخلاقِهِمْ لـم تقدِرْ علَى مداراتِهِمْ" ذلك لأن الشخص إذا كان كلّما رأى من أحد زلّة رفضه لزلّته فإنه سيبقى وحيدًا لا صديق له، ولن يجد من يعاشره، وإنما عليه أن يغض الطرف عن الأخ الصّادق ويقيل عثرته ويسامحه في زلته، ولا يناقش الصّديق السيئ على عثراته وهفواته فربما ردّ عليه بما هو أكبر، وأخطأ عليك بما هو أعظم . إن المداراة فن لا يستخدمه إلا العقلاء، ولا يتعامل به إلا الحكماء، ولا ينضبط بضوابطه إلا رزناء الرجال وأولو الأحلام والنُهى منهم.
نسألُ اللهَ أن يهديَنا لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ، لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ هو، وَأن يصْرِفَ عَنَّا سَيِّئَهَا، لاَ يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلاَّ هو.