سلسلة هل تعلم حلقات الموسم الثالث - إعداد وتقديم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأخرس

هل تعلم أنَّ العفيفَ كريمٌ على اللهِ سبحانَهُ وتعالى؟


هل تعلم أنَّ العفيفَ كريمٌ على اللهِ سبحانَهُ وتعالى؟
الموسم الثالث - الحلقة الثامنة عشرة
إعداد وتقديم الشيخ الدكتور محمد الأخرس

إنَّ العِفَّةَ والعَفَافَ خُلُقٌ إيمانيُّ رفيعٌ ومِنْ أعظمِ محاسنِ دينِنا الإسلاميِّ، بل مِنْ أَنْجَعِ وسائلِ تربيةِ النفسِ على الصبرِ والقناعةِ. وصفةُ العِفَّةِ وردَتْ في وصيةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلّمَ لأبي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنهُ التي رواها أحمدُ والطبرانيُّ وغيرُهما. قالَ أبو ذرٍّ الغفاريُّ رضيَ اللهُ عنهُ: "أَمَرَنِي خَلِيلِي - أي حبيبي ورسولي - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئاً".
العفةُ غرسُ الفضائلِ والمحاسنِ في المجتمعاتِ. قالَ صاحبُ اللسانِ: "العِفَّةُ والعَفَافُ بمعنى الكفِّ عمَّا لا يحِلُّ ولا يَجْمُلُ مِنْ قولٍ أو فعلٍ. وهو عفيفٌ، وهي عفيفةٌ، إذا افتقرَ لا يسألُ الناسَ".
وقالَ الماورديُّ: "العفةُ والنزاهةُ والصيانةُ مِنْ شُروطِ المروءةِ" والعفافُ الكفُّ عَنِ الحرامِ والسؤالِ مِنَ الناسَ. ويدلُّ عليه ما رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى والسدادَ وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى".
ولقد ضُربَ بفقراءِ المهاجرينَ مثلٌ رائعٌ في العفةِ، حيثُ كانوا مَعَ شِدَّةِ حاجتِهم لا يسألونَ الناسَ شيئًا، بل لا يعلَمُ بحالِهم إلا من خَبَرَ نفوسَهم. قالَ تعالى في حقِّهم: ﴿لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ الآية [سورة البقرة/237]. فقد مدحَهُم اللهُ بقولِهِ: ﴿أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ أي مِن أجلِ تعفُّفِهم عَنِ السؤالِ، فالمسلمُ العفيفُ إذا افتقرَ لا يَسألُ الناسَ. الْجَاهِلُ بحالِهم يَحْسَبُهُمُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ لأنهم لا يسألونَ، ولا يذكرونَ شيئًا لا تلميحًا ولا تصريحًا.
قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ هَذَا الطَّوَّافَ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، ولكنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ولا يقومُ فيَسألُ الناسَ"أخرجَهُ البخاريُّ.
المسكينُ كاملُ المسكنةِ، المسكينُ حقيقةً، الفقيرُ المحتاجُ حاجةً حقيقيةً ليسَ هو الذي تردُّهُ التمرةُ والتمرتانِ؛ لأنَّ مِثْلَ هذا يَسألُ الناسَ، ويُصَرِّحُ بمسألتِهِ ويَتَعَرَّضُ لهم، ولا يجلِسُ في بيتِهِ فيُعطونَهُ ما يَرفَعُ عنهُ حدَّ المسكنةِ، ولربما يفيضُ ذلكَ عندَهُ فيتصدقُ منهُ، أو يُعطي أو يبيعُ كما هو مُشاهَدٌ. فمثلُ هذا لا يَبيتُ طاويًا غالبًا مِنَ الجوعِ، فهو يتعرضُ للناسِ، وكلما جلسَ مع أحدٍ بدَأَ يَذكُرُ لهُ حالَهُ وفقرَهُ وحاجتَهُ وحاجةَ عيالِهِ وما أشبهَ ذلك. فالناسُ يتعارفُونَ بينَهم أنَّ هذا الإنسانَ مِسكينٌ، فهذا يأتيهِ بصدقةٍ، وهذا يأتيهِ بمالٍ، وهذا يأتي بطعامٍ وهكذا، فقد يحصلُ له غنًى يُغنيهِ مِنْ عطايا الناسِ. "ولكنِ الْمِسْكِينُ" حقيقةً كما قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الذي يَستحقُّ الوصفَ الكاملَ مِنَ المسكنةِ هو الذي يتعفَّفُ، ومعنى يتعففُ يعني يتركُ السؤالَ، ويُوضِحُ هذا قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "ولكنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ" يعني ليسَ عندَهُ شىءٌ يقومُ بحاجاتِهِ، مِنْ تجارةٍ أو كسبٍ أو غيرِ ذلك، وإنما هو منقطعٌ ليسَ لهُ ما يسدُّ حاجتَهُ،" لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ولا يقومُ فيَسألُ الناسَ" .
الإنسانُ تُكفى حاجتُهُ بأحدِ هذه الأمورِ الثلاثةِ، إما أنه يجدُ غنًى يُغنيهِ، أو يكونُ لَهُ وظيفةٌ يأخذُ عليها أجرًا، أو يكونُ حصَّلَ ميراثًا، يكونُ له تجارة،ٌ أو يكونُ له مهنةٌ وصَنعةٌ يَكتسِبُ منها، فيجدُ غنًى يُغنيهِ، أو أن هذا الإنسانَ يتفطنُ لَهُ النَّاسُ يعرفونَ أنَّهُ مسكين، أو يقومُ في المسجدِ مثلًا فيسألُ الناسَ يقولُ: أنا فقير، أنا محتاجٌ، فيُعطيهِ هذا، ويُعطيهِ هذا، ويُعطيهِ هذا، فيجدُ كفايتَهُ.
فهذا الحديثُ يُرشِدُ المسلمَ إلى الأحقِّ والأولى بالرعايِة والإحسانِ والصدقةِ، والبرِّ والصلةِ، وهم هؤلاءِ الَّذِينَ يتعفَّفُون.
إنَّ العفةَ والاستعفافَ يحتاجانِ إلى طاعةٍ وإلى إخلاصٍ للهِ ربِّ العالمينَ، وإذا التزمَ المسلمُ بعفتِهِ وطهارتِهِ فإنَّ لَهُ عظيمَ الأجرِ ووافرَ الثوابِ عندَ اللهِ، قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ " متفقٌ عليه.
العفةُ جُنّةٌ – وقاية- وكرامةٌ؛ لأنَّ العفيفَ كريمٌ على اللهِ سبحانَهُ وتعالى، حيث أكرَمَ نفسَهُ في الدنيا عن الدّنَايَا، فأكرمَهُ اللهُ في الآخرةِ بأعلى الدرجاتِ وأحسَنِ العطايا، واستحقَّ ميراثَ الجِنان. فيا سعادةَ مَنْ عَفَّ، ويا فَوزَ ويا هناءةَ مَنْ كَفَّ نفسَهُ.
اللهم جنبنا الحرام وارزقنا التقى والغنى والعفاف والتعفف يا أرحم الرَّاحمين، يا أكرم الأكرمين.