سلسلة هل تعلم حلقات الموسم الثالث - إعداد وتقديم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأخرس

هل تعلم أنَّ بِرَّ الوالدَينِ واجتنابَ عقوقِهما مِنْ أَعظَمِ أوامرِ اللهِ؟


هل تعلم أنَّ بِرَّ الوالدَينِ واجتنابَ عقوقِهما مِنْ أَعظَمِ أوامرِ اللهِ؟
الموسم الثالث - الحلقة السادسة عشرة
إعداد وتقديم الشيخ الدكتور محمد الأخرس

إنَّ بِرَّ الوالدَينِ واجتنابَ عُقُوقِهِما مِنْ أعظمِ أوامرِ اللهِ، فللوالدَينِ حَقٌّ واجبٌ يقومُ بِه المسلمُ تعبُّدًا لله تعالى قاَل اللهُ عزَّ مِنْ قائلٍ: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [سورة لقمان/14].
أمرَ اللهَ تعالى بشكرِهما بَعْدَ أنْ بيَّنَ ما تلقاهُ الأمُّ مِنَ العَناءِ والمشقَّةِ طِيلةَ حملِها وعندَ وضْعِهِ ونموِّهِ قَالَ تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا على وَهْنٍ﴾ الآية [سورة لقمان/14]، ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ﴾ أي عَهِدْنا إليهِ وجعلناهُ وصيةً عندَهُ، سنسألُهُ عَنِ القيامِ بها وهل حَفِظَها أم لا؟ فوصَّيناهُ ﴿بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتهُ﴾ أي بالإِحسانِ إليهما بالقولِ اللينِ والكلامِ اللطيفِ والفعلِ الجميلِ والتواضعِ لهما وإكرامِهما وإجلالِهما والقيامِ بمؤنتِهما واجتنابِ الإساءةِ إليهما مِنْ كلِّ وجهٍ بالقولِ والفعلِ.
لو تأمّلَ كلٌّ منا، لو تأملتَ صِغَرَكَ وضَعْفَكَ حالَ طفولتِكَ، تذكَّرْ معاناةَ أُمِّكَ منك، وذلكَ حينما جعلتْ بطنَها لكَ وعاءً، ودَمَها لكَ غذاءً. تأمَّلْ حمَلها لك في بطنِها تسعةَ أشهرٍ، وهي تحملُ معَها الآلامَ، فإذا قَرُبَ وقتُ وضعِكَ وحانَتْ ساعةَ خروجِك إلى الدنيا اختلطَتْ مشاعرُها، فرحٌ وحُزْنٌ ... خوفٌ واستبشارٌ ... فتفرحُ وتستبشرُ بمقدمِكَ .. وتخافُ وتحزنُ مِنْ هولِ أمرِ وضعِكَ، وما قد يحدثُ مِنْ أثرِ ذلكَ، ولكن يَغْلِبُ فرحُها واستبشارُها بمقدمِكَ على خوفِها وحزنِها، فكلُّ شىءٍ لديها يَهُون إذا رأتكَ صحيحًا سليمًا.
وتبدأُ الرحلةُ الشاقةُ لأمِّكَ فها هي تُرضِعُكَ حولينِ كامِلَينِ ، تسهَرُ لسهَرِكَ وتتألَّمُ لألمِكَ وتحزنُ لحزنِكَ وتزيلُ الأذى عنكَ بيدَيْها دونَ تردُّدٍ أو تأفُّفٍ، وصدقَ اللهُ إِذْ قالَ: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ﴾ الآية [سورة لقمان/14] أي مشقةً على مشقةٍ، فلا تزالُ تُلاقِي المشاقَّ، من حين يكونُ نطفةً، مِنَ الوَحَمِ والمرضِ والضعفِ والثِّقَلِ وتغيُّرِ الحالِ ثم وجعِ الولادةِ ذلك الوجعُ الشديدُ.
قال اللهُ تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ الآية [سورة الأحقاف/15]. ومعنى حملتْهُ كُرْهًا أنها في حالِ حملِها بِه تلاقِي مشقةً شديدةً. فتذبلُ الأمُّ وتضْعُفُ لمرضِ وليدِها وفلذةِ كَبِدِها وتغيبُ بسمتُها إِنْ غابَتْ ضحكتُهُ، وتذرفُ دموعَها إذا اشتدَّ بِه المرضُ والوَعْكُ، وتحرِمُ نفسَها الطعامَ والشرابَ، إن صامَ طفلُها عن لبنِها، بل وتلقي بنفسِها في المشاقِّ لتنقذَ وليدَها.
وأما الوالدُ ذلك الرجلُ الذي يكِدُّ ويتعبُ ويروحُ ويغدو مِنْ أجلِ راحةِ ابنِه وسعادتِه، فالإبنُ لا يُحِبُّ بعد أمِّه إلا أباهُ ولكنْ وللأسفِ فسُرعانَ ما ينسى ذلك الأبناءُ، الجحودُ والنكرانُ وعدمُ التقديرِ إلا من هدى اللهُ. اتقوا اللهَ في ءابائِكم وأمَّهاتِكم.
فالمسلمُ الشاكرُ الممتثِلُ لأمرِ اللهِ تعالى يُقدِّرُ هذه الأمورَ قَدْرَها، ويُعطِيها شيئًا مِنَ الحُسْبانِ، ويَحْتَسِبُها في الميزانِ، قَالَ جلَّ ثناؤُه إخبارًا عن هذا الإبنِ الشاكرِ: ﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [سورة الأحقاف/16]. فما أروعَهُ مِنْ ثَوابٍ، وما أصدقَهُ مِنْ وَعْدٍ! وهو أن يعرفَ حقَّ والدَيْهِ فيكونُ في عِدادِ أصحابِ الجنةِ، وممن مُحيتْ عنه سيئاتُهُ، وقُبِلَ منهُ أَحسنُ ما عَمِلَ، ورُزِقَ التوبةَ إلى اللهِ تعالى، وَكَانَ مِنَ المسلمينَ طوعًا واختيارًا رغبةً فيما عندَ اللهِ تعالى، وأن يَعترفَ بنعمةِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ بطلبِ ما يُرضِيهِ، وصلاحِ ذريَّتِهِ لَهُ، كما أصلحَهُ اللهُ تعالى لوالدَيهِ، وجَمعَ بينَ شُكْرِ النعمةِ عَلَيْهِ وعلى والدَيهِ؛ لأنَّ النعمةَ عليهما نعمةٌ عَلَيْهِ.
إننا في زمانٍ قلَّ فِيهِ البِرُّ وازدادَ فِيهِ العقوقُ والشرُّ، نحتاجُ إلى مَنْ يُذَكِّرُنا فِيهِ بحقِّ الوالدَينِ وعظيمِ الأجرِ لِمن برَّهما، فطُوبى لمن أحسنَ إليهما ولم يُسِئْ لهما، طُوبى لمن أضحَكَهما ولم يُبْكِهما، طُوبى لمن أعزَّهما ولم يُذِلهما، طوبى لمن أكرمَهما ولم يُهِنْهما، طوبى لمن نظَرَ إليهما نَظَرَ رحمةٍ وودٍّ وإحسانٍ، وتذكَّرْ معَهما ما كانَ منهما مِن برٍّ وعطفٍ وحنانٍ، طوبى لمن شَمَّرَ عَنْ ساعِدِ الجِدِّ في برِّهما، فما خرجا مِنْ الدنيا إلاّ وقد كتبَ اللهُ لهُ رضاهما.
اللهم ارزقنا علما نافعا، وقلبا خاشعا، ولسانا ذاكرا، وجسدا على البلاء صابرا، ربنا وارزقنا عيْنَيْنِ هطَّالَتَيْن تبكيان الدَّمْعَ مِن خشيتك مِنْ قبل أن يصيرَ الدَّمع دَمًا والأضراس جَمْرا