سلسلة هل تعلم حلقات الموسم الثالث - إعداد وتقديم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأخرس

هل تعلم أن الهناء والسعادة لِمنْ شَغَلَهُ عَيبُهُ عن عُيُوبِ النّاسِ؟


هل تعلم أن الهناء والسعادة لِمنْ شَغَلَهُ عَيبُهُ عن عُيُوبِ النّاسِ؟
الموسم الثالث - الحلقة الخامسة عشرة
إعداد وتقديم الشيخ الدكتور محمد الأخرس

إنَّ مِنْ سعادةِ المرءِ الحقيقيةِ أنْ يُجاهدَ نفسَهُ التي بينَ جنْبَيْهِ، فيُلزِمَها بطاعةِ ربِّ البـرياتِ ويَحُثَّها على المسارعةِ في الخيراتِ، ويزجرَها عن فعلِ المعاصي والمنكراتِ، لأنه يعلمُ أنها مصدرُ كلِّ شقاءٍ وأصلُ كلِّ بلاءٍ. طوبى لِمن شغلَهُ عيبُهُ عَنْ عيوبِ الناسِ، وويلٌ لِمَنْ نَسِيَ عيبَهُ وتفرَّغَ لعيوبِ الناسِ، فالأوّلُ علامةُ السعادةِ والثاني علامةُ الشقاوةِ.
إن الكثيرَ مِنَ المسلمينَ اليومَ قد أُصِيبوا بداءٍ قتّالٍ ومرضٍ عُضالٍ، ألا وهو داءُ تتبعِ العوراتِ وتشهيرِ الزلاتِ التي يقعُ فيها إخوانُهم من المسلمينَ مع غفلتِهم عن عيوبِهم. لذا أصبحتْ مجالسُهم إلّا مَنْ رَحِمَ اللهُ عامرةً بالغِيبةِ والنميمةِ والاستهزاءِ واستحقارِ الآخرينَ وتتبعِ أخطائِهم، بدلَ شكرِ نِعَمِ اللهِ جلَّ وعلا وذكرِهِ سبحانَهُ وتعالى، والتذكيرِ بما ينفعُهم في الدنيا والآخرةِ.
عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وعلى ءالِه وسلَّمَ: "طُوبى لِمنْ شَغَلَهُ عَيبُهُ عن عُيُوبِ النّاسِ" أخرجَهُ البَزّارُ بإسنَادٍ حَسنٍ ورواهُ أحمدُ والطبرانيُّ وابنُ حِبّانَ والحاكمُ. ومعنى طوبى لك: أصَبتَ خيًرا وطِيبًا.
قالَ الْمُنَاويُّ: "طُوبَى لِمن شَغلَهُ عَيبُهُ عَنْ عُيُوبِ النّاسِ فَلم يَشتَغِل بها"، فعَلى العَاقلِ أن يتَدبّرَ في عيُوبِ نَفسِه فإنْ وجَدَ بها عَيبًا اشتَغلَ بإصلاحِ عَيبِ نَفسِه فيَستَحِي مِن أن يَترُكَ نَفسَه ويَذُمَّ غَيرَه. فالمؤمِنُ يُهَذِّبُ نَفسَهُ قَبلَ أن يَشتَغِلَ بالتّنقِيبِ عن عُيُوبِ غَيرِه. من سعى لكشفِ عيوبِ أخيهِ المسلمِ عاقبَهُ اللهُ جلَّ وعلا بإظهارِ عيوبِهِ وكشفِ عوراتِهِ، ومن سترَ على إخوانِهِ سترَ اللهُ جلَّ جلالُهُ عليه في الدنيا والآخرةِ، فعن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : "مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ يومَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللهُ عَوْرَتَهُ، حتى يَفْضَحَهُ بها في بَيْتِهِ"رواهُ ابنُ ماجَهْ.
ألم يُدْرِكْ صاحبُ هذا الفعلِ الذميمِ أنَّ انشغالَهُ بعيوبِ غيرِهِ سَيَحْرِمُهُ مِنْ معرفةِ زلاتِ نفسِهِ وعيوبِها؟! وأنَّ اهتمامَهُ بإصلاحِ عيوبِهِ سيصرفُهُ عن تتبُعِ هفواتِ غيرِهِ؟!
قالَ أهلُ العلمِ: لا أحسِبُ أحَدًا يتَفَرَّغُ لِعَيبِ النّاسِ إلا عن غَفلَةٍ غَفِلَها عن نَفسِه، ولَو اهتَمَّ لِعَيبِ نَفسِه ما تفَرّغَ لِعَيبِ أَحَدٍ.
فلا ينبغي أن يكونَ الواحدُ منا مُتتِبعًا لعوراتِ أخيهِ أي عيوبِهِ بل ينبغي أن يُسامحَهُ إنْ أساءَ إليهِ، وإنْ أحسنَ إليهِ أن يُعاملَهُ بالإحسان. روى أبو داودَ عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنهُ أن رجلا كانَ عندَ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فمرَّ رجلٌ بهِ فقالَ يا رسولَ اللهِ إني لأحبُّ هذا فقالَ لهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:"أأعلمتَهُ". قالَ: لا. قالَ: "أعْلِمْهُ" فلَحِقَهُ فقالَ "إني أُحِبُّكَ في اللهِ" فقالَ "أحبَّكَ اللهُ الذي أحببتني لَهُ".
من أسبابِ مرضِ القلبِ وقسوتِه أن ننشغلِ عن ذكرِ اللهِ جلَّ وعلا بذكرِ عوراتِ الناسِ، يقولُ أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ:"عليكُم بذكرِ اللهِ فإنَّهُ شفاءٌ، وإياكُم وذكرَ الناسِ فإنّهُ داءٌ ". رواهُ ابنُ أبي الدنيا في كتابِ الصمتِ وءادابِ اللسانِ.
ما أجملَ السترَ وما أعظمَ بركتَهُ، السترُ خُلُقُ الأنبياءِ والمرسلينَ، السترُ يُورِثُ المحبةَ ويُثْمِرُ حسنَ الظَّنِّ ويُطفِئُ نارَ الفسادِ. السترُ طاعةٌ وقُربانٌ وبِهِ تقومُ الأخلاقِ. وقد أقرَّ الإسلامُ بهذا الخلقِ الكريمِ بل حَضَّ وكافأَ عليه "ومَنْ سَتَرَ مُسلمًا في الدُّنيا، سترَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ" حديثٌ صحيحٌ أخرجَهُ مسلمٌ. مَنِ اشتغلَ بعيوبِهِ عَنْ عيوبِ غيرِهِ أراحَ بدنَهُ ولم يُتْعِبْ قلبَهُ، فكلما اطلعَ على عيبٍ لنفسِهِ هانَ عليهِ ما يَرى مثلَهُ مِنْ أَخيهِ، وأنَّ مَنِ اشتغلَ بعيوبِ الناسِ عَنْ عيوبِ نفسِهِ عميَ قلبُهُ وتَعِبَ بدنُهُ وتعذَّرَ عليهِ تركُ عيوبِ نفسِهِ، وإنَّ مِنْ أعجزِ الناسِ مَنْ عابَ الناسَ بما فِيهم وأعجزُ منهُ مَنْ عابَهم بما فِيهِ.
قالَ بعضُ السلفِ: أدركتُ أقوامًا لم يكُن لهم عيوبٌ، فذكروا عيوبَ الناسِ، فذكرَ الناسُ لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوبِ الناسِ، فنُسِيَتْ عيوبُهم.
فيا مَن يرجُو اللهَ واليومَ الآخرَ، لسانَك لسانَك، صُنْه عن أعراضِ المسلمينَ، وسمْعَك سمعَك، صُنهُ عن التحسُّسِ والتجسسِ. إخواني ينبغي للإنسانِ أن يعرفَ شرفَ زمانِهِ، وقدرَ وقتِهِ، فلا يُضَيِّعُ منهُ لحظةً في غيرِ قُربةٍ، ويُقَدِّمُ الأفضلَ فالأفضلَ مِنَ القولِ والعملِ.
اللهُمَّ استُرْ عوراتِنا وءَامِنْ رَوْعاتِنا واكْفِنَا ما أَهَمَّنَا وقِنَا شَرَّ ما نَتَخَوَّفُ