سلسلة هل تعلم حلقات الموسم الثالث - إعداد وتقديم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأخرس

هل تعلمُ أن في التأني السلامةَ وفي العجلةِ الندامةَ؟


هل تعلمُ أن في التأني السلامةَ وفي العجلةِ الندامةَ؟
الموسم الثالث - الحلقة الحادية عشرة
إعداد وتقديم الشيخ الدكتور محمد الأخرس

إنَّ الأَناةَ والتأنيَ منَ الأُمورِ التي يُحِبُّها اللهُ تعالى، فيُشْرَعُ في حقِّ المسلمِ أن يتخَلَّقَ بها وأن يَتَجَنَّبَ ما يُضادُّها، فالأناةُ التثبُّتُ في الأمورِ وتركُ العجلةِ، ولقد أمرَ اللهُ تعالى نبيَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بالصَّبرِ والتَّأني وعدمِ الاستعجالِ، فقالَ تعالى: ﴿فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ الآية [سورة الأحقاف /35]. والعجلةُ في الأمورِ مُفْسِدةٌ لها في الغالبِ، إلَّا أن هذا الاستعجالَ طَبْعٌ في الناسِ كما قالَ عزَّ وجلَّ: ﴿خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ الآية [سورة الأنبياء /37]. وقالَ تبارك وتعالى: ﴿وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ عَجُولا﴾ الآية [سورة الإسراء/11]. فيستعجلُ الأمورَ ولا يتأنى في معرفةِ أماكنِ الخيرِ، وقد قيلَ: إنَّ معَ المستعجلِ الزللَ.
وجاءَ في صحيحِ مسلمٍ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالَ لأشجِّ بنِ عبدِ القيسِ: "إنَّ فيك َلخصلتَينِ يُحِبُّهُما اللهُ تعالى الحِلمُ والأَناةُ " . فقالَ: يا رسولَ اللهِ هل ذلكَ شىءٌ جُبِلْتُ عليه أمِ اكتسبتُه؟ قالَ: "بل جُبِلْتَ عليهِ". معناهُ أنتَ من أصلِ نشأتِكَ هكذا، أي فيكَ الحلمُ والأَناةُ، فحَمِدَ اللهَ تعالى على أنَّ اللهَ جبَلَهُ على خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ ورسولُهُ.
ومِنْ هذا الحديثِ نأخذُ أن الإنسانَ قد يكونُ من أولِ نشأتهِ على أخلاقٍ حسنةٍ مَرْضِيّةٍ وقد يكونُ على خلافِ ذلكَ، ثم يكتسبُ بصحبةِ أناسٍ طيبينَ أو بتعلمِ ودراسةِ العلمِ الذي يُهَذِّبُ الأخلاقَ. سيدُنا عمرُ قبلَ أن يُسْلِمَ كان جافيًا غليظًا ثم بعدَ أن أسْلَمَ انقلبَ رحيمًا بالمؤمنينَ شفيقًا عليهم لصغيرِهم وكبيرِهم ووجيهِهم وخاملِهم.لقد كانَ نبيُّنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم متأنيًا متثبتًا في أمورهِ كلِّها، إذ يقولُ: "التـأني مِنَ الله والعجلةُ مِنَ الشيطانِ" أخرجَهُ البيهقيُّ في السننِ الكبرى.
قالَ المُنَاويُّ في فَيْضِ القَديرِ: التَّأنِّي مِن اللهِ تعالى أي ممَّا يرضاهُ ويُثيبُ عَلَيْهِ، والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيطانِ أي هو الحاملُ عليها بوَسْوَستِهِ؛ لأنَّ العَجَلَةَ تمنعُ مِنَ التَّثبُّتِ والنَّظرِ في العواقبِ.
وليستِ العجلةُ كلُّها مذمومةً، فلقد أمرَنَا نبيُّنا صلَى اللهُ عليهِ وسلَّم بالاستعجالِ في أمورٍ، فقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
فينبغي على المسلمِ أن لا يستعجِلَ في أمرٍ قد يندمُ عليهِ بعدَ لحظاتٍ، فكم من كلمةٍ متعجَّلةٍ خرجَتْ من فمِ زوجٍ طائشٍ هدمَتْ بيتًا كانت السعادةُ عنوانَهُ، ثم هو يطرُقُ الأبوابَ ليجِدَ مَنْ يُفْتِيهِ ويُعِيدُها إليهِ.
قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في الحديثِ الذي رواهُ البخاريُّ: "إنَّ العبدَ ليتكلمُ بالكلمةِ ما يتبيَّنُ فيها" وفي روايةٍ: " لا يُلقِي لها بالا " وفي روايةٍ: "لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النارِ أبعدَ مما بينَ المشرقِ والمغربِ" وفي روايةِ الترمذيِّ: "يَهوي بها في النارِ سبعينَ خريفًا".قالَ ابنُ حجرٍ شارحُ الحديثِ في فتحِ البارِي: وفيه دليلٌ على أنَّهُ قد يَخْرُجُ الشخصُ مِنَ الإسلامِ مِنْ حيثُ لا يشعرُ، وهذا لا بُدَّ لَهُ مِنَ الرُّجوعِ إلى الإسلامِ بالنُّطْقِ بالشهادَتَيْنِ. فالعجلةُ وهي السرعةُ في الشىءِ مذمومةٌ فيما كانَ المطلوبُ فيه الأناةَ، وأما العجلةُ في الخيرِ والمسارعةُ في الطاعاتِ فهي محمودةٌ قالَ تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَبِّكُمْ﴾ الآية [سورة ءال عمران /133]، وقال: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ الآية [سورة ءال عمران/114] لأنَّ المسارعةَ في الخيرِ دليلُ فرطِ الرغبةِ فيهِ حتى لا يفوتَ، ففي التأخيرِ ءافاتٌ.
ومن مضارِ العجلةِ أنها قد تؤدي بصاحبِها إلى تركِ واجبٍ أو فعلِ محرمٍ، ففي الحديث: "رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مِنْ مَكّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتّى إِذَا كُنّا بِمَاءٍ بِالطّرِيقِ تَعَجّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عِجَالٌ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ". فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ". معناهُ يستحقُّ عذابًا هلاكًا شديدًا، عقوبةً شديدةً إذا تركَ تعميمَ غسلِ العقبِ في الوضوءِ، وفي الجنابةِ كذلكَ.
فأمورُ الدنيا والمباحاتُ ينبغي على المسلمِ أن يتريثَ فيها وأن لا يستعجلَ، وقد قيلَ: ما خابَ مَنِ استشارَ وما نَدِمَ من استخارَ. بينَما أمورُ الآخرةِ والعباداتُ والطاعاتُ، لا يُسَنُّ تأخيرُها، قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:" التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَىءٍ خَيْرٌ إِلا فِي عَمَلِ الآخِرَةِ" رواهُ الحاكمُ في المستدركِ. فاتقوا اللهَ وتأنَّوْا فيما يجبُ التأني فيهِ، وتعجَّلُوا فيما يجبُ التعجُّلُ فيه، تَعَجَّلُوا بالتوبةِ ولا تُؤَخِّرُوها طرفةَ عينٍ، وبادِرُوا بالأعمالِ قبلَ نزولِ الموتِ، فإنَّ الواحدَ منا لا يدري متى يكونُ أجلُهُ.
اللهُمَّ أصلِح لنا دينَنا الذي هُوَ عِصمَةُ أمرِنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا ءاخرتنا التي فيها مَعادُنا.